إبطال الترادف بين الإيمان والتصديق لفظاً
إن صحة المعنى لا توجب الترادف بين الألفاظ، وذلك من وجوه: أحدها: أن ننفي الترادف بينها لفظاً، يقول الشيخ رحمه الله: (أحدهما: أنه يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه ولا يقال:آمنه أو آمن به) هذا من ناحية اللفظ، وإذا أريد أن يعبر عنه بالإيمان يقال: آمن له، ولا يقال آمنه كما في قوله تعالى: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]، وقوله تعالى: (( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ))[يونس:83] وقال حكاية عن فرعون: (( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ))[طه:71] وقالوا لنوح: (( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ ))[الشعراء:111] وقال تعالى في حق النبي صلى الله عليه وسلم: (( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ))[التوبة:61].إذاً: الإيمان يأتي متعدياً باللام بمعنى: التصديق، وأما التصديق فإن اللفظ يكون متعدياً بنفسه، فيقال: صدقه مع أن المعنى واحد، لكن الترادف في اللفظ غير موجود. قال المؤلف رحمه الله: (فإن قيل فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا) فجاز في لغة العرب أن يقال: ما أنت بمصدق لي والمرجئة تقول: هذا جائز، وهذا من جنسه، فكيف نرد عليهم في الفرق بين أن يكونا مترادفين فيتعديان ويعملان عملاً واحداً، وبين أن لا يكونا أحياناً يمكن ذلك؟ والتفصيل أن نقول: إذا قلنا: وما أنت بمصدق لنا، فهذه اللام غير اللام التي في آمن له؛ لأن اللام في آمن له، هي لام التعدية، فالفعل لا يتعدى بنفسه بل يتعدى باللام، أما هنا فنستطيع أن نقول: ما أنت بمصدق، أو ما أنت بمصدق لنا، فهذه اللام ليست كالأولى؛ لأن هذه اللام إنما هي لتقوية العامل؛ فالعامل الذي يتعدى بنفسه كما في صدق، لكن إذا ضعف عمله لسبب من الأسباب كأن يكون اسم فاعل أو مصدراً أو تأخر عن المعمول، فإنه يضعف، بخلاف قول: لا أصدقك فيتعدى بنفسه؛ لأنك هنا استخدمت الفعل والفعل قوي، لكن اسم الفاعل ضعيف، ويكون عاملاً عمل الفعل؛ لأنه يشبه المضاف من حيث أنه اسم أضيف إلى اسم، فيمكن أن تقول: ما أنا بمصدق علياً، فيكون مضافاً ومضافاً إليه.إذاً: فهو هنا يشبه الاسم فهو ضعيف، إذ الفعل ليس واضحاً كما في استخدام الفعل نفسه، فحتى يزول هذا الضعف يقوى باللام، فيبقى فيه التنوين، كما في قوله: بمصدق لنا، فاللام تقوي عمل اسم الفاعل، فكأن اسم الفاعل مع اللام صارا في قوة الفعل. وقد يكون التعدي بنفسه في حال تقديمه. قال المؤلف رحمه الله: (فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه) فهذه متعدية بنفسها من غير لام. ثم قال: (إذا ذكر باسم الفاعل قيل: هو عابد لربه .. متقٍ لربه .. خائف لربه فتعدى باللام لضعفه). ثم قال: (وكذلك تقول: فلان يرهب الله، ثم تقول: هو راهب لربه، وإذا ذكرت الفعل وأخرته تقويه باللام، كقوله تعالى: (( وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ))[الأعراف:154]).وإذا قيل في غير القرآن والذين هم ربهم يرهبون فإنه صحيح، وكل ما في الأمر أنك قدمت المفعول وأخرت الفعل والفاعل، وهذا صحيح في لغة العرب، بل قد جاء حتى في القرآن، لكن تأخير العامل يضعف علاقته وأثره في المعمول المتقدم؛ ولذلك يجاء باللام كما في قوله تعالى: (( لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ))[الأعراف:154]، ثم قال رحمه الله: (قال: (( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ))[النحل:51] فعداه بنفسه، وهناك ذكر اللام، فإن قوله: (فإياي) أتم من قوله: (فلي) وقوله: (لربهم) أتم من قوله: (ربهم) فإن الضمير المنفصل المنصوب أكمل من ضمير الجر بالياء وهناك اسم ظاهر، فتقويته باللام أولى وأتم من تجريده، ومن هذا قوله تعالى: (( إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ))[يوسف:43]) مع أن الأصل أن يقال: عبرتُ الرؤيا، فيتعدى بدون اللام، والرؤيا مفعول به. قال المؤلف: (وكذلك قوله: (( وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ))[الشعراء:55] وإنما يقال: غظته، ولا يقال: غظت له).فهو متعد أيضاً بنفسه ومثله كثير، وعلى هذا فمثله هذه الآية، فإذا قيل: إن معنى (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] معناها: وما أنت بمصدق لنا (فيقول القائل: ما أنت بمصدق لنا أدخل فيه اللام لكونه اسم فاعل، وإلا فإنما يقال: صدقته ولا يقال: صدقت له، ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدقتنا) فلا يحتاج إلى أن يقال: ما صدقت لنا، على اعتبار أن معنى مؤمن: مصدق، نحن الآن لا نزال معهم في هذا الافتراض. يقول المؤلف رحمه الله: (وهذا بخلاف لفظ الإيمان فإنه يتعدى إلى الضمير باللام دائماً، ولا يقال آمنته قط) فالإيمان إذا كان مرادفاً للتصديق فلا يتعدى بنفسه، فلا يقال: آمنته قط في كلام العرب، وإنما يقال: آمنت له، فعلى هذا تكون الآية: (( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17] على أقرب تفسير لها لغوياً أن يقال: ما أنت بمصدق لنا، أو نأتي بفعل يتعدى باللام؛ لأن آمن لا تأتي إلا متعدية باللام كآمن التي بهذا المعنى، وليس آمن التي هي الإيمان كما يظنون، ونحن نقول: هذا معنى التصدق، وهذا معنى الإيمان الذي هو الإيمان بالغيب، وقد مر عندما شرحنا معنى الإيمان أن قلنا: معناه: قد يكون التصديق وقد يكون الإقرار، ثم قلنا: الإقرار في كلام الشارع يستلزم العمل، واستدللنا على ذلك بآية: ((قَالُوا أَقْرَرْنَا))[آل عمران:81] فيكون أقرب معنى أن نقول: وما أنت بمقر لنا ولو كنا صادقين، وهذا من الناحية اللغوية أفضل، حتى يقابل اللفظ اللفظ، وتظل اللام تتعدى هنا كما تتعدى هناك. إذاً: أولاً: نفينا الترادف لفظاً، وإن اعترضوا علينا بأن اللام تدخل قلنا: إن اللامين مختلفتان، فهذه لام لا يتعدى الفعل إلا بها، أما تلك فإنها لام تقوي الفعل أو العامل الذي يتعدى بنفسه حين يضعف عمله بسبب من الأسباب.